الوعي الثوري وأهميته
بقلم : أ. خالد الإبراهيم أبو ثابت
دائما تخاف النفس البشرية من المجهول وتقلق وترتبك ، ويقلق الكثيرون مما بعد التخلص من السلطة وإسقاط النظام. ويقلق الكثيرون كذلك من سير الحراك الشعبي الثوري ومن منسوب وعي شباب الثورة وقدرة الشعوب على حماية حراكها وتطويره وتحمّل مسؤوليته والدفاع عنه والحفاظ على كل مكتسب تحققه سواء سياسيا تفاوضيا كان أو عسكريا .
تمرّ ثورتنا في منطقتنا أو في دولتنا في مرحلة تحوّل شاملة لا نعي ولا نفهم تماماً كيفيّة حركتها وتطورها، ولا نعي قوانينها الطبيعية التي تسيّرها. والمستقبل المجهول مخيف للكثيرين.
ومن الطبيعي والمبرّر الخوف من التغيير والثورة، بعد كل ما عانيناه من تغييب وتضليل وتخدير مارسته علينا الأنظمة والحكومات والدول والجمعيات والأمم باحترافيّة لامثيل لها .
لا شك في أن هذه المخاوف وكل هذا القلق مبرّر ومفهوم، إلّا أنّه لا ينبغي أن يتحول إلى عائق أمام الثورة وتقدّمها. بل يجب تحويل هذا الخوف والقلق إلى قوّة دافعة تحفزنا على العمل الجاد من أجل ابتكار الوسائل والطرق التي تحمي حراكنا الثوري وتطورُه بالاتجاه الصحيح، نحو تحقيق التحوّل الذي تسعى إليه القطاعات الشعبية الثورية المنتفضة عبر المظاهرات والتنديد والالتفاف الحقيقي حول الثورة والدفاع عنها وعدم السماح لأحد أن يشوهها أو يسيئ إليها من داخلها أو من أعدائها .
الثورة عملية تغيّر وتطوّر طبيعيّة ومعقّدة، تدفع بالشعب وبالدولة نحو الأمام ، إلى حالة متجاوزة للماضي، أكثر تطوّراً وتقدماً. وفي الحراك الثوري للمجتمعات البشريّة، يرى الناس حقيقة الأنظمة الحاكمة التي ثارت عليها من ظلم وقهر وقتل وتشريد وتآمر مع الخارج والأعداء للشعب ويكون مؤامرة كونية بكل أشكال المؤامرة ضده ، وحقيقة الثورة وصعوبتها وحتميتها آنذاك . إذ تكسِر الجماهير كل قيود الإخضاع التي عملت السلطة الدكتاتورية القمعية الظالمة على تكريسها لعقود، وتتخلص من أوهام الخنوع والخوف التي كانت تمنعها من رؤية الحقيقة، وتستعيد الثّقة بالقدرة على تغيير النّظام والتقدّم للأمام.
إنّ مجرّد تمرّد الإنسان الثوري على كل الحواجز النفسية والعقلية وإدراكه بضرورة الثورة يُعد بمثابة لحظة وعي تاريخيّة هامّة، تؤذن بولادةِ إنسان جديد.
الثورة، بممارستها وحركتها، تُطوّر الوعي الجمعي. وأسباب ذلك متعدّدة، منها تجاوز الناس لكل أدوات السيطرة التي كرستها السلطة في نفوسهم، كالعزل والتقسيم والذاتيّة والخوف وتزييف الوعي وتخديره، ويحل محلها ــ في الثورة ــ التضامن والتوحّد والتعاون والضحية التي دمّرتها السلطة عبر التاريخ. فترى الشعوب قوّتها الحقيقيّة في تجمّعها وتكاتفها صفاً واحداً في أشكال الاحتجاج الشعبي المختلفة من أجل إسقاط النظام وتغييره. والثورة أيضاً تُجبَر الشعوب على تحمّل مسؤولياتها في سدّ الفراغ الذي يحدثُه غياب السلطة، فتتعلّم كيف تنظّم وتدير حياتها وأمورها اليوميّة دون الحاجة إلى الدولة. فالشعب ــ في الثورة ــ يمارس ويتعلم أعلى أشكال التنظيم والإدارة الذاتيّة، وهو ما يعمل على تراكم الوعي وإحداث نقلة نوعيّة فيه، كتشكيل نخبة سياسية مثقفة واعية تقوده وتدافع عنه في المحافل الدولية وعبر الإعلام وعبر منبر خاص تنطق من خلاله وتسوق لرؤيتها وأهدافها وخططها، وذراع عسكرية لحفظ الأمن والدفاع عن كل الناس الذين دخلوا في كنف الثورة من بعض اشخاصها ضعفاء النفوس ومن أعدائها ، ومجموعات مراقبة ومجموعات إغاثة وإمداد ومشاف ميدانيّة... وغيرها من الأمور الضرورية للاستمرار.
وفي الثورة، يبدأ الناس العاديون بالتعاطي بموضوعيّة ومسؤوليّة مع الواقع الصعب، محاولين إيجاد المخرج والحل. ما يعمل على تطوّر وعيهم، تحديداً فئة الشباب التي انتفضت على الماضي، وتسعى إلى مستقبل مختلف يلبي طموحاتهم، فالانفتاح على المجتمع والآراء والحوارات اليوميّة المكثفة عن الثورة والصراع والمطالب وشكل التغيير، والاهتمام بالسياسة ومحاولة الفهم... وكل ذلك، يراكم الوعي ويعمل على إعطاء دفعة قويّة للوعي والعقلانيّة. ففي الثورة يتحرّر الناس من أوهامهم ومن قيود الماضي. إن عقل ما بعد الثورة مختلف تماماً عن عقل ما
قبلها.
عندما تقوم الثورة الشعبيّة، يدخل الناس في صراعٍ قاس وعميق وحاد مع السّلطة التي تعمل بأساليبها البشعة على إرهاب المجتمع وتقسيمه وضربه ببعضه واختراقه وووو. صراع كثيف يُكسب الشباب الثائر خبرات هائلة في مجالات مختلفة، اجتماعية، سياسية، ثورية... وقيماً ومفاهيم إنسانية وثوريّة غيّبتها السلطة، كالتضامن والتعاون والاجتماع والعمل بروح الفريق ووضع الأكفأ في المقدمة ورفض الظلم والسعي للحريّة والثقة بقوة الشعب وبإمكانيّة وحتميّة التغيير والتقدّم والثورة.
في الثورة، يُفرز الشعب طليعة شبابيّة ثوريّة واعية، تمتلك وعياً وخبرات سياسيّة واجتماعيّة فرضتها قساوة الصراع وكثافته وتعدّد مستوياته. شبابٌ متعطشٌ للفهم وللتقدّم وتخليص الشعب من نُظُم القهر والاستغلال الحاكمة، ساعٍ إلى المعرفة من أجل فهم عميق لطبيعة الصراع الذي يخوضه ويتفاعل مع تفاصيله، وقادر على بلورة مطالب شعبه وتحقيقها والحفاظ عليها ، ويمتلك الوعي الكافي لكشف المتسلّقين والانتهازيين ومناورات الأنظمة والجماعات المدسوسة، واستغلال الخارج واحتوائه للثورة، فالتجربة والاختبار والممارسة العملية للثورة هي الشرط الأساسي لتطورالوعي.
الثورة تحرّر البشريّة من الأوهام، وتؤسّس لوعي جمعي أقرب إلى الحقيقة والواقع وتجعله قريب من الحاضنة الشعبية التي تحميه وبها يلوذ ويكبر ، وتجعل منه أكثر تقدّماً وتحرّراً. الثورة خطوة نحو الوعي والعقلانيّة والمحبة والتعاون .
الطبيعة تتطوّر بالثورة، والإنسان هو وعي الطبيعة، والمجتمعات البشريّة ــ كالطبيعة ــ تتطوّر ويتقدّم وعيها بالثورة... الثورة حقيقة علميّة ثابتة لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها... وبين الوعي والثورة، علاقة جدليّة واضحة. والتطوّر البشري حقيقة تاريخيّة يفرضها الصراع المتواصل حتى القضاء على كل أسبابه جذريّاً، على كل أشكال استغلال الإنسان للإنسان، واستغلال الإنسان للأرض وما عليها، وصولاً إلى مجتمع بشري عقلاني متقدّم.
أكبر تحدي يواجه مشروع الثورة، يكمن في النظر إلى الحراك الشعبي الأول أو الموجة الأولى من الثورة قبل سنوات باعتبار أنها حركة لم تحقق أيا من نتائجها أو أهدافها.
غالبا لا تملك طبقة الاستبداد الحاكمة في البداية أي انجاز تحاول أن تقنع به عامة الناس، سوى قدرتها على تحقيق الاستقرار الذي في حقيقته حالة من الجمود، وكذلك الأمن.
لأن عامة الناس في حالة ما قبل الحراك، تكتفي بالحد الأدنى من مقومات الحياة وتعيش في حالة سلبية عميقة، لذا يكون بالنسبة لها استقرار الأوضاع له أهمية في حياتها، وهذا مانعيشه حقيقة ومانراه من خضوع وخنوع بعض فئات المجتمع إلى الجلاد بفضل بعض الامتيازات عن الذين يموتون .
لا يتشكل الوعي بأهمية الثورة، إلا بتشكل رؤية للنظام القائم وطبيعته تحدد الأسس التي يقوم عليها، حتى يمكن تحديد الأسس التي يجب أن يبنى عليها النظام الجديد بعد ما تفرزه الثورة الحقيقية .
لا يكفي أن يتشكل وعي بأهمية وفاعلية الحراك الشعبي الثوري في تحديد مطالب عامة الناس، بل من المهم أن يكون الوعي المؤمن بالحراك الشعبي الثوري له هدف يتحرك نحوه وخطة عمل مدروسة يتقيد بها ويقيمها كل فترة .
كان من أهم عوامل ضعف الحراك الشعبي الثوري الأول، أنه لم يكن يحمل رؤية واضحة للتغيير، لذا فمن عناصر تقوية أي حراك شعبي ثوري آخر ، أن يكون له وعي عميق برؤية للتغيير وأن يكون له بنك أهداف مقسم على مراحل .
لن يكون الحراك الشعبي الثوري قويا بالفعل على الأرض فقط، بل بالرؤية المستقبلية الحقيقية التي يحملها والتي توحد الحراك الشعبي الثوري بكل أطيافه وأقسامه وكلٌّ يكمل الآخر ويدعمه ويقوي موقفه، وتحدد له طريق يسير فيه، حتى يكمل عملية التغيير بنجاح.
إن النظر إلى طبيعة النظام السياسي المستبد، تحدد العوامل التي يجب تغييرها، وبالتالي تحدد الأسس التي يجب أن يستند لها النظام الجديد، مما يجعل للحراك الثوري تصور ينشده.
المشكلة الأساسية في النظام السياسي المستبد،أننا لم نفهمه بشكل صحيح ولم نقرأه بتجرد وموضوعية، وأنه نظام حكم يعتمد على الأقلية، وقائم على التعبير عن أقلية والتعبير عن مصالحها وثقافتها وهويتها، في مواجهة الأغلبية الكاسحة والمغيبة تماما .
إن أول ما تبنى عليه الثورة، هو وعي بطبيعة حكم النظام الأقلوي ، وأهمية تغيير هذا النظام وتحويله إلى حكم الأغلبية، وليس المقصود المعنى السياسي للأغلبية والأقلية، بل المعنى المجتمعي.
النظم التي تتغير بالثورات، هي نظم قاعدتها الاجتماعية تمثل أقلية في المجتمع أو أقليات، وتحدث الثورة لتنحية الأقلية عن الحكم والسيطرة على السلطة والثروة لصالح الأغلبية.
غالبا ما يكون حكم الأقلية هو النموذج الذي لا يتغير إلا بثورة، لأن أي حكم أغلبية حقيقي، يمكن أن يتطور أو يتغير من داخله وبدون ثورة، أما حكم الأقلية فلا يتغير من داخله بل من خارجه وبثورة.
أغلب الثورات واجهة حكم الأقلية، ولكن الثورة السورية تواجه نوعا خاصا من حكم الأقلية، وهو حكم الأقلية التابع للغرب والشرق، وهو وتد من الأوتاد القوية والمهمة التي زرعها الكيان الصهيوني لاستمراره وديمومته ، ومشكلة التبعية والداعم لهذا النظام تمثل ركنا مهما من الوعي بالثورة.
عندما تواجه الثورة حكم أقلية تابع، فهي تبني في المقابل حكم أغلبية مستقل، ومشكلة التبعية تجعل الثورة هي في الواقع عملية تحرر من الاحتلال غير المباشر.
ليست ثورة فقط لتغيير النظام السياسي المستبد المحلي ، بل نضال ضد الاحتلال غير المباشر أيضا، فهي ثورة تحرر تلك التي يحتاجها العالم العربي وأيضا العالم الإسلامي.
إن الوعي بالثورة يكتمل في أسسه وقاعدته، عندما يكون عملية تغيير لحكم الأقلية، لبناء حكم أغلبية، يعبر عن الأغلبية وثقافتها وهويتها ومصالحها، ويبنى على سياسات عامة تعبر عن خياراتها وأهدافها وغاياتها .
يكتمل الوعي بالثورة بقدر إدراك أهمية تحقيق الاستقلال الكامل عن الداعم والموجه الخارجي، وعن كل أشكال التبعية للخارج أيا كانت، وليس فقط التبعية العسكرية السياسية أو الاقتصادية أو العرقية أو الطائفية أو أو. .
الاستقلال الحضاري، والتميز الحضاري والتمسك بالهوية، كلها كانت عناوين الثورات الكبرى وأيضا مراحل التغيير المهمة في التاريخ، والتي تمثل مرحلة إعادة تأسيس الأمم والشعوب وتعرف ماهيتها ومواطن قوتها وتأثيرها وأخذ مكانها الحقيقي بين الأمم وتفعيل مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية .
وعي الثورة القائم على هوية الأغلبية، والذي يبني نظاما سياسيا على عقيدة تأسيسية حضارية تعبر عن الأغلبية أو السواد الأعظم،أو في منطق المواطنة الذي يدخل فيه القومية والأمة وغيرها وهو الذي يملك رؤية لمسار التغيير المنشود.
بناء نظام سياسي يؤسس على قاعدة اجتماعية وثقافية تعبر وجدانيا عن أغلبية المجتمع أو أغلب مكوناته إن لم يكن كلها، يمثل الوعي الهادف لتغيير حكم الأقلية التابع المستبد .
اسقاط طبقة حكم الأقلية التابعة للمحتل، هو معنى كلمة الشعب "يريد اسقاط النظام" ، والتي لم تكن واضحة في موجة الحراك الشعبي الثوري الأولى التي تتمثل في الحرية وبعض الإصلاحات ، والتي تمثل الضرورة الملحة لموجات الحراك التالية مباشرة وبحماية السلاح .
وختاما نجزم بأن الوعي العميق لمفهوم الحراك الشعبي الثوري له فاعلية وتأثير كبير في بوصلة الثورة ونتائجها والحفاظ على مكتسباتها ، وأنه ينتج تغييرا للأفضل ولا ينتج الفوضى، رغم كل التضحيات والخسائر التي لابد منها ، يؤسس لوعي صحيح لبناء وطن قوي جديد ومتماسك وينقله إلى الحضارات القوية المتقدمة، إن الوعي العميق بأن الثورة تسقط نظام حكم يحقق مصالح أقلية ويعبر عنها، وتبني نظام حكم يحقق مصالح الأغلبية والمجتمع بشكل عام ويعبر عن وجدانها في صناعة مستقبلها الذي تطمئن إليه ، هو الذي يكشف لماذا تحقق الثورة مصالح عامة الناس.
تعليقات
إرسال تعليق